تعد نظرية تشومسكي في اكتساب اللغة من أبرز وأهم النظريات التي أثرت في مجالات اللغويات وعلم النفس وعلم الأعصاب. وقد اقترح عالم اللسانيات الأمريكي نوام تشومسكي هذه النظرية في منتصف القرن العشرين، وقد أحدثت ثورة حقيقية في طريقة فهمنا لآلية اكتساب اللغة لدى الإنسان. تفترض النظرية أن البشر يمتلكون قدرة فطرية على تعلم اللغة، وهي قدرة مدمجة في دماغ الإنسان منذ الولادة. وتستند هذه النظرية إلى عدة أفكار رئيسية، أبرزها أن الإنسان يولد مزودًا بآلية عصبية مدمجة تُعرف بـ “الآلة اللغوية” التي تتيح له اكتساب اللغة بطريقة طبيعية.
أسس نظرية تشومسكي
نظرية تشومسكي تُبنى على فكرة أن هناك “مقدرة لغوية فطرية” لدى الإنسان، وهي ما أطلق عليها تشومسكي “الآلية اللغوية الداخلية” أو “الاستعداد الفطري”. هذا الاستعداد الفطري لا يتعلق بلغة واحدة بعينها، بل يمكن للبشر تعلم أي لغة يعيشون فيها خلال مراحل نموهم. ورأى تشومسكي أن هناك فارقًا جوهريًا بين تعلم اللغة وبين اكتساب مهارات أخرى مثل تعلم الرياضيات أو تعلم قيادة السيارة. حيث أن اكتساب اللغة يحدث دون الحاجة إلى تعليم متعمد، وهو أمر يحدث بطريقة طبيعية أثناء التواصل مع الآخرين.
مفهوم “النحو التوليدي”
من أهم المفاهيم التي طورها تشومسكي في إطار هذه النظرية هو “النحو التوليدي” الذي يشير إلى مجموعة القواعد التي تتيح للإنسان إنشاء عدد غير محدود من الجمل من مجموعة محدودة من العناصر اللغوية. ووفقًا لهذا المفهوم، فإن اللغة هي عبارة عن نظام من القواعد التي يقوم الدماغ بتطبيقها بشكل غير واعٍ أثناء التواصل. ومن خلال هذه القواعد، يمكن للإنسان تشكيل جمل جديدة تمامًا لم يسمع بها من قبل، مما يشير إلى أن الإنسان لا يتعلم اللغة بطريقة ميكانيكية فقط، بل يقوم بتركيبها من خلال فهمه الداخلي لقواعد اللغة.
الفطرة والبيئة: هل هي متكاملة أم متضادة؟
لقد قدم تشومسكي هذا النموذج بالتزامن مع انتقاده لنظرية التعلم السلوكي التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وكانت هذه النظرية السلوكية تعتمد على فكرة أن الإنسان يتعلم اللغة عبر تقليد ما يسمعه وتكرار ذلك. إلا أن تشومسكي اعتبر أن هذا التفسير لا يفسر بشكل كافٍ قدرة الأطفال على تعلم اللغة بشكل صحيح وبسرعة هائلة. فعلى سبيل المثال، يلاحظ أن الأطفال في مراحل مبكرة من حياتهم يتمكنون من تكوين جمل معقدة لم يسمعوا بها من قبل، كما أن لديهم القدرة على تصحيح الأخطاء اللغوية التي قد يقعون فيها. وهذا يدل على أن اكتساب اللغة لا يمكن تفسيره فقط من خلال محاكاة ما يسمعونه من البيئة المحيطة بهم.
الاستعداد الفطري والتفاعل مع البيئة
أوضح تشومسكي أن اكتساب اللغة يعتمد على تفاعل كل من الاستعداد الفطري والتأثيرات البيئية. وبالرغم من أن الاستعداد الفطري هو العامل الأساسي الذي يسهم في تعلم اللغة، فإن البيئة تلعب دورًا هامًا في تطوير هذه القدرة. وتُظهر الدراسات أن الأطفال الذين يتعرضون للغة بشكل منتظم يتمكنون من تعلمها أسرع وأفضل من أولئك الذين لا يتعرضون لمثل هذه المحفزات.
مكونات “الآلية اللغوية” عند تشومسكي
تشمل “الآلية اللغوية” التي تحدث عنها تشومسكي مكونين رئيسيين:
-
النحو العميق: يشير إلى البنية الأساسية للجمل التي يتم تنظيمها في الدماغ بشكل غير واعي. النحو العميق هو الأساس الذي يُبنى عليه النحو السطحي، وهو ما نراه في الجمل التي نستخدمها في حديثنا اليومي.
-
النحو السطحي: هو الشكل الظاهر للجمل التي نستخدمها في التحدث. بينما يختص النحو العميق بالقواعد الأساسية التي يتعلمها الدماغ بشكل فطري، فإن النحو السطحي هو الذي يظهر في التفاعلات اليومية.
النظرية اللغوية والمفاهيم الحديثة
لقد تطورت نظرية تشومسكي في اكتساب اللغة بشكل كبير مع مرور الزمن. فقد أدت إلى تطور العديد من المفاهيم الحديثة في مجالات مثل علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب، التي درست كيفية معالجة الدماغ للغة. كما أسهمت هذه النظرية في تطوير دراسات علمية تركز على قدرة الدماغ البشري على اكتساب عدة لغات في وقت واحد (اللغات الثنائية أو المتعددة)، مما يشير إلى أن الدماغ البشري لديه القدرة الفائقة على التكيف مع بيئته اللغوية.
الانتقادات الموجهة للنظرية
على الرغم من التأثير الكبير الذي أحدثته نظرية تشومسكي في دراسة اكتساب اللغة، إلا أن هناك العديد من الانتقادات التي وجهت إليها. أحد أبرز الانتقادات هو أنها لا تأخذ في الاعتبار اختلافات الثقافة والبيئة في عملية اكتساب اللغة. ففي العديد من الدراسات، تبين أن بعض الأطفال قد يكتسبون اللغة بمعدلات أسرع أو أبطأ وفقًا للعوامل البيئية مثل التعليم والتفاعل الاجتماعي. كما أن بعض النقاد أشاروا إلى أن التشديد على الفطرة في اكتساب اللغة قد يقلل من أهمية العوامل الاجتماعية والثقافية التي تؤثر بشكل كبير على تعلم اللغة.
تطور نظرية تشومسكي
منذ بداية طرحه لنظرية اكتساب اللغة، قام تشومسكي بتطوير أفكاره بشكل مستمر. ففي مرحلة لاحقة، قدم مفهومًا جديدًا يطلق عليه “النحو الفطري” أو “النحو الصريح” الذي يركز على القواعد التي يفترض أن الدماغ البشري مبرمج عليها مسبقًا. وقد اعتبر أن جميع اللغات البشرية تتبع نفس القواعد الأساسية رغم تنوعاتها المختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد اقترح تشومسكي في أواخر القرن العشرين فكرة “المدخلات المعرفية” التي تشير إلى أن الدماغ البشري يستقبل معلومات لغوية ويعالجها بطريقة خاصة تساعده على تشكيل قاعدة لغوية خاصة به، مما يساهم في سرعة اكتساب اللغة لدى الأطفال.
تطبيقات نظرية تشومسكي
لقد أثرت نظرية تشومسكي في العديد من المجالات مثل التعليم وعلاج اضطرابات اللغة. ففي مجال التعليم، تساهم النظرية في تحسين طرق تدريس اللغات الأجنبية، حيث تشير إلى أن الفطرة الإنسانية في تعلم اللغة تتيح للمتعلمين أن يلتقطوا اللغات بسرعة أكبر عندما يتم توفير بيئة لغوية غنية.
أما في مجال علاج اضطرابات اللغة، فقد استخدمت الأفكار التي طرحها تشومسكي لتطوير استراتيجيات علاجية تهدف إلى تصحيح الأخطاء اللغوية التي قد يعاني منها الأطفال الذين يعانون من تأخر في اكتساب اللغة أو من اضطرابات لغوية أخرى.
الخاتمة
في الختام، تمثل نظرية تشومسكي في اكتساب اللغة حجر الزاوية لفهم كيفية تعلم الإنسان للغة. وقد ساهمت بشكل كبير في تطوير علم اللغة العصبي وعلم النفس المعرفي. رغم الانتقادات التي واجهتها هذه النظرية، فإنها تظل أحد الأسس الرئيسية التي يعتمد عليها العلماء في دراسة عمليات اكتساب اللغة وتعلمها.
